فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لماذا العذاب الشديد؟
لقد قلنا من قبل: إن العذاب يوصف مرة بأنه أليم، ويوصف مرة أخرى بأنه مهين، ويوصف هنا بأنه شديد. والعذاب المهين الذي تكون فيه ذلة النفس. والعذاب الأليم الذي يكون في البنية؛ لأن الإِنسان له بنية وله معنويات قيمية، فمن ناحية البنية يصيبه العذاب، ومن ناحية المعاني النفسية تصيبه الإِهانة، فهناك من يتعذب لكنك لا تملك أن تهينه ويتحمل المشقة برجولة، ومهما تلقى من الإِهانة فلا تزال نفسه كريمة عليه، مصدقًا لقول الشاعر:
وتجلدي للشامتين أريهمو ** أني لريب الدهر لا أتضعضعُ

لذلك ينزل قدر الله بالعذاب على نوعين: عذاب بنية وعذاب قيم، وهذا هو الصغار، والعذاب الشديد، وهو الذي لا يقوى الإِنسان على تحمله، ولم يُنزل الحق العذاب بهؤلاء جزافًا، لكنه بسبب ما كانوا يمكرون، فسبحانه هو القائل: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118]
والحق سبحانه وتعالى حينما عرض هذه القضية عرضها ليبين لنا أنه لم يرغم بقدره خلقًا من خلقه على مسائل الاختيار في التكليف بل أوجد ذلك في إطار: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ...} [الكهف: 29]
ولكن الإرغام من الحق جاء للأمور القهرية القدرية الكونية الخارجة عن نطاق التكليف، أما أمر التكليف فالله سبحانه وتعالى قال فيمن يرفضون الطاعة: {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ} وسبحانه قد أوضح لنا: نحن لم نجعل ذلك قهرًا منا لهم دون عمل عملوه باختياره بل إن العذاب والصغار كانا جزاءً لمكرهم.
ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى لنا بقضية يقع فيها الجدل التبريري لبعض الناس الذين أسرفوا على أنفسهم، ويريدون أن يجعلوا إسرافهم على أنفسهم في الذنوب خاضعا لأن الله أراد منهم ذلك؛ فيقول سبحانه: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ...}. اهـ.

.من فوائد الشوكاني في الآيات:

قال رحمه الله:
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)}
قوله: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه} قرأ الجمهور بفتح الواو بعد همزة الاستفهام.
وقرأ نافع، وابن أبي نعيم بإسكانها، قال النحاس: يجوز أن يكون محمولًا على المعنى، أي انظروا وتدبروا {أَفغَيْرَ الله أَبْتَغِى حَكَمًا أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه} والمراد بالميت هنا الكافر، أحياه الله بالإسلام.
وقيل معناه: كان ميتًا حين كان نطفة، فأحييناه بنفخ الروح فيه.
والأوّل أولى، لأن السياق يشعر بذلك لكونه في تنفير المسلمين عن اتباع المشركين، وكثيرًا ما تستعار الحياة للهداية وللعلم، ومنه قول القائل:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ** فأجسامهم قبل القبور قبور

وإن امرأ لم يحيي بالعلم ميت ** فليس له حتى النشور نشور

والنور: عبارة عن الهداية والإيمان.
وقيل هو القرآن.
وقيل الحكمة.
وقيل هو النور المذكور في قوله تعالى: {يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم} [الحديد: 12] والضمير في {به} راجع إلى النور {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات} أي كمن صفته في الظلمات، ومثله مبتدأ والظلمات خبره، والجملة صفة لمن.
وقيل مثل زائدة، والمعنى: كمن في الظلمات، كما تقول: أنا أكرم من مثلك، أي منك، ومثله: {فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} [المائدة: 95] {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء} [الشورى: 11].
وقيل المعنى: كمن مثله مثل من هو في الظلمات، و{لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا} في محل نصب على الحال، أي حال كونه ليس بخارج منها بحال من الأحوال.
قوله: {وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} أي مثل ذلك الجعل جعلنا في كل قرية.
والأكابر جمع أكبر، قيل: هم الرؤساء والعظماء، وخصهم بالذكر؛ لأنهم أقدر على الفساد، والمكر: الحيلة في مخالفة الاستقامة، وأصله الفتل، فالماكر يفتل عن الاستقامة: أي يصرف عنها {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ} أي وبال مكرهم عائد عليهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} بذلك لفرط جهلهم {وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ} من الآيات، {قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ الله} يريدون أنهم لا يؤمنون حتى يكونوا أنبياء، وهذا نوع عجيب من جهالاتهم الغريبة وعجرفتهم العجيبة، ونظيره: {يُرِيدُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً} [المدثر: 52].
والمعنى: إذا جاءت الأكابر آية قالوا هذه المقالة، فأجاب الله عنهم بقوله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه} أي إن الله أعلم بمن يستحق أن يجعله رسولًا، ويكون موضعًا لها، وأمينًا عليها، وقد اختار أن يجعل الرسالة في محمد صفيه وحبيبه، فدعوا طلب ما ليس من شأنكم، ثم توعدهم بقوله: {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ} أي: ذلّ وهوان، وأصله من الصغر كأنّ الذلّ يصغر إلى المرء نفسه.
وقيل الصغار هو الرضا بالذلّ، روي ذلك عن ابن السكيت.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه} قال: كان كافرًا ضالًا فهديناه {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا} هو القرآن {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات}: الكفر والضلالة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عكرمة في الآية قال: نزلت في عمار بن ياسر.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس في قوله: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في الناس} يعني عمر بن الخطاب، {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا} يعني أبا جهل بن هشام.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن زيد بن أسلم، في الآية قال: نزلت في عمر ابن الخطاب، وأبي جهل بن هشام، كانا ميتين في ضلالتهما، فأحيا الله عمر بالإسلام وأعزّه، وأقرّ أبا جهل في ضلالته وموته، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فقال: «اللهم أعزّ الإسلام بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب».
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن عكرمة في قوله: {وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا} قال: نزلت في المستهزئين.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في الآية قال: سلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن مجاهد قال: {أكابر مُجْرِمِيهَا} عظماءها.
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن جريج في قوله: {وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ} الآية قال: قالوا لمحمد حين دعاهم إلى ما دعاهم إليه من الحق.
لو كان هذا حقًا لكان فينا من هو أحق أن يؤتي به محمد: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله: {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ} قال: أشركوا {صَغَارٌ} قال: هوان. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)}
أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتيَ رسل الله} وذلك أنهم قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى ما دعاهم إليه من الحق: لو كان هذا حقًا لكان فينا من هو أحق أن يأتي به من محمد {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31].
أما قوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالاته}.
أخرج أحمد عن ابن مسعود قال: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئًا فهو عند الله سيء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي حسن قال: أبصر رجل ابن عباس وهو يدخل من باب المسجد، فلما نظر إليه راعه فقال: من هذا؟ قالوا: ابن عباس ابن عم رسول الله. قال: {الله أعلم حيث يجعل رسالاته}.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {سيصيب الذين أجرموا} قال: أشركوا {صغار} قال: هوان.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {صغار} قال: ذلة.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {بما كانوا يمكرون} قال: بدين الله ونبيه وعباده المؤمنين. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}.
في {حَيْثُ} هذه وجهان:
أحدهما: أنَّها خرجتْ عن الظرفيَّة، وصارت مَفْعُولًا بها على السِّعَةِ، وليس العامِلُ أعْلَمُ هذه؛ لما تقدَّم مِنْ أنَّ أفْعَلَ لا تنصبُ المفعول به.
قال أبُو عَلِيّ: لا يجوزُ أنْ يكُونَ العامِلُ في {حَيْثُ}: فِعلًا يدُلُّ عليه {أعْلَمُ} و{حَيْثُ} لا يكونُ ظَرْفًا، بل يكونُ اسْمًا، وانتصابُه على المفعلول به على الاتِّساعِن وملُ ذلك في انتصابِ {حَيْثُ} على المفعولِ به اتساعًا قولُ الشَّمَّاخِ: [الطويل]
وحَلأهَا عَنْ ذِي الأرَاكَةِ عَامِرٌ ** أخُو الخُضْرِ يَرْمِي حَيْثُ تُكْوَى النَّوَاجِزُ

ف {حَيْثُ} مفعولةٌ، لأنه لي يُريدُ أنه يَرْمِي شَيْئًا حيث تكون النواجِز، إنما يريدُ أنه يرمي ذلك الموضع.
وتبع الناسُ الفَارسيَّ على هذا القول.
فقال الحوفِيُّ: لَيْسَتْ ظَرْفًا؛ لأنه تعالى لا يكُون فِي مكانٍ أعْلمَ منه في مكانِ آخر، وإذَا لم تكن ظَرْفًا، كان مَفْعُلًا بها؛ على السِّعَةِ، وإذا كانت مَفْعُولًا، لم يعملْ فيها أعْلَمُ؛ لأن أعْلَمُ لا يعملُ في المفعولِ بهِ فيقدّرُ لها فِعْلٌ وعبارةُ ابْنِ عطيَّة، وأبِي البَقَاءِ نحو مِنْ هذا.
وأخذ البرِيزيُّ كلام الفارسيِّ فنقله، وأنْشدَ البيتَ المتقدِّمَ.
والثاني: أنَّها باقيةٌ على ظَرْفِيَّتِهَا بطري المجاز، وهذا القولُ لَيْسَ بشيءٍ، ولكنْ أجَازَهُ أبُو حيَّان مختارًا له على ما تقدم.
فقال: وما أجازُواه مِنْ أنَّهُ مفعولٌ به على السعة أو مفعولٌ به على غيْرِ السعة- تَأبَاهُ قواعِدُ النَّحْو؛ لأن النحويِّينَ نَصُّوا على أنَّ حَيْثُ مِنَ الظرُوفِ التي لا تتصرفُ، وشذَّ إضافةُ لَدى إليها، وجرِّها بالياء، وب في، ونصُّوا على أن الظرف المتوسَّعَ فيه لا يكونُ إلاَّ مُتَصرِّفًا، وإذا كان كذلك، امتنع نصبُ حَيْثُ على المفعُولِ به، لا على السِّعَة، ولا على غَيْرها.
والذي يَظْهَرُ لِي إقْرارُ حَيْثُ على الظَّرفيةِ المجازيَّةِ، على أنْ يُضَمَّنَ أعْلَمُ مَعْنَى ما تيعدِّى إلى الظرفِ، فيكون التقديرُ: اللَّهُ أنْفَذُ عِلْمًا حَيْثُ يجعلُ رِسَالاه أي: هو نافِذُ العلم في لاموضع الذي يجعل فيه رسالاته، والظرف هنا مجازٌ كما قلنا.
قال شهابُ الدِّين: قد ترك ما قاله الجمهورُ، وتتابعوا عليه، وتأوَّل شَيْئًا هو أعْظَم مما فَرَّ مِنْه الجمهورُ، وذلك أنه ليزمه على ما قدَّر أنَّ عِلْمَ الله في نَفْسِه يتفاوت بالنسْبَة إلى الأمْكِنَة، فيكونُ في مكانِ أبْعَدَ مِنْه في مكانٍ، ودعواه مجازُ الظرفيَّةِ لا ينفعهُ؛ فيما ذكرته من الإشْكَال، وكيف يُقَالُ مِثْلُ هذا؟ وقوله: نَصَّ النحاةُ على عدم تصرُّفها هذا معارضٌ- أيضًا- بأنهم نصُّا على أنها قد تتصرَّفُ بغير ما ذكر هو مِنْ كونها مجروةً بلَدَى أو إلى أو فِي فمنه: أنها جاءت اسمًا لإنَّ في قوله الشاعر: [الخفيف]
إنَّ حَيْثُ اسْتَقَرَّ مَنْ أنْتَ رَاجيـ ** ـهِ حِمًى فِيه عِزَّةٌ وأمَان

ف حيثُ اسمُ إن، وحِمًى خبرُها، أيْ: إنَّ مكانًا استقرَّ من أنتن راعية مكانٌ يحمي فيه العزُّ والأمانْ ومِنْ مَجِيئها مجروةً بإلى قول القائل في ذلك: [الطويل]
فَشَدَّ وَلَمْ يُنْظِرْ بُيُوتًا كَثِيرةً ** إلَى حَيْثُ ألْقَتْ رَحْلَهَا أمُّ قَشْعَمِ

وقد يجابُ عن الإشْكال الذي أوْرَدْتُه عليه، بأنه لم يُرِدْ بقوله أنْفَذُ عِلْمًا التفضيل، وإنْ كان هو الظاهِرُ بل يُريد مُجَردَ الوصْفِ؛ ويدلُّ على ذلك قوه: أي هُوَ نَافِذُ العلمل في الموضع الذي يَجْعَلُ فيه رِسَالاته، ولكن كان يَنْبَغِي أنْ يصرِّحَ بذلك، فيقول: ولَيٍ المراد التفضيل.
وروي حَيْثَ يَجْعَلُ بفتح الثاء، وفيها احتمالان:
أحدهما: أنها فتحةُ بناْءٍ؛ طَرْدًا للباب.
والثاني: أنها فتحةُ إعرابٍ؛ لأنها معربةٌ في لغةِ بَنِي فَقْعس، حكاها الكسَائِيُ.
وفي حَيْثُ سِتُّ لُغَاتِ: حَيْثُ: بالياء بتَثْلِيث الثاءِ، وحَوْثُ: بالواو، مع تَثْلِيث الثاء.
وقرأ ابنُ كثير، وحَفْصٌ عن عَاصم {رسالَتَه} بالإفراد، والباقون: {رِسَالاتِهِ} بالجمع، وقد تقدَّم توجيهُ ذلك في المائدة؛ إلا أن بَعْضَ مَنْ قر هُناك بالجمْع- وهوحَفْصٌ- قرأ هنا بالإفْرادِ، وبعضُ مَنْ قرأ هناك بالإفْرَادِ- وهو أبو عَمْرو، والأخوانِ، وأبُو بَكْرٍ، عَنْ عاصم- قرأ هنا بالجمع، ومعنى الكلام: اللهُ أعْلَمُ بمَنْ هُوَ أحَقُّ بالرِّسالةِ.
قوله: {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله} قِيلَ: المرادُ بالصِّغَارِ ذلك وهوان يحصلُ لهم في الآخرة.
وقيل: الصغارُ في الدنيا، وعذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة.
قوله: {عِنْدَ اللًّهِ} يجوزُ أنْ يَنْتَصِبَ بـ {يُصِيب} ويجوز أن ينتصبَ بـ {صَغَار}؛ لأنه مصدرٌ، وأجازُوا أن يكون صِفَةً لـ {صغار}؛ فيتعلق بمحذوفٍ، وقدَّره الزجاجُ فقال: ثَابِتٌ عن الله تعالى.
والصِّغارُ: الذلُّ والهوان، يقالُ منه: صَغُر يَصْغَر صِغْرًا فهو صغِيرٌ، هذا قولُ اللَّيْثِ، فوقع الفرقُ بين المعْنَيَيْنِ بالمصدرِ، والفعلِ.
وقال غيره: إنه يُقالُ: صَغُر، وصغَر من الذل.
والعِنْديَّةُ هنا: مجازٌ عن حَشْرِهم يوم القيامةِ، أو عَنْ حُكمه وقضائه بذلك؛ كقولك: ثَبَتَ عند فلانٍ القاضِي، أيْ: في حكمه، ولذلك قدَّم الصَّغار على العذاب؛ لأنه يُصيبهُمْ في الدنيا.
و{بما كانوا} الباء للسببيّة أي: إنما يُصيبهم ذلك بسبب مَكْرِهم، وكَيْدِهم، وحَسَدِهم ومَا مصدرية، ويجوز أن تكون معنى الذي. اهـ.